عدد المساهمات : 540 نقاط : 1641 تاريخ التسجيل : 08/08/2009
موضوع: الأيمان رأس الحياه الروحيه (ج2) الجمعة 28 أغسطس - 1:35
الأيمان رأس الحياه الروحيه(ج2)
إن الحياة تكون روحية بقدر ما يكون فيها من إيمان. استمرار الحياة الروحية لا يُفهم على أنه استمرار زمني، لأن الحياة الروحية لا يُقاس عمقها أو طولها بالسنيين، إنما هيَّ استمرار لوجود الإيمان، وعلامته هيَّ استطاعتنا الوقوف ضد أنفسنا وضد تيارات العالم مهما كانت الخسارة، وبالتالي يُقاس الإيمان بمقدار حياتنا الإيجابية مع الله وثبوت رجائنا فيما هوَّ آتٍ بيقين وفرح يزيد من حُريتنا.
أي أن طول الحياة الروحية واستمرارها هوَّ في الواقع قياس باطني لا يُمكن أن يكتشفه الناس لأنه حَدث إيماني فائق يكمَّل فعله في الداخل لتجريد الإنسان من ذاته (أنانيته) ولغلبة العالم ومبادئه وأمانيه وإخضاعها لسيادة الروح.
هذا العمق لا يظهر منه الناس إلا موقف عرضي من المواقف التي تلحُّ على الإنسان أحياناً وتجبره أن يقف اضطرارا ضد العالم أو الذات، كتوبيخ إيليا لآخاب أو يوحنا المعمدان لهيرودس أو شهادة الشهداء أو خروج القديس أنطونيوس من العالم، حيث يصبح الموقف علامة تُثْبت وجود الإيمان وتُزكية. ولكن المواقف لا تصنع الحياة الروحية. الذي يصنع الحياة الروحية هو فعل الإيمان وتغلغله في الكيان البشري. وهو يتكون سراً في الأعماق كحصيلة تتجمع من اتصالات الإنسان المستمرة بالله عن طريق الكلمة والدخول معه في استجابات متوالية حسب مطالب الكلمة أي وصاياه.
ولكن الإيمان عموماً يبدأ كقوة روحية داخلية عارية من كل شيء وليس لها علامة تُميزها عن غيرها من الطاقات البشرية الأخرى. غير أنه سرعان ما تلتحم هذه القوة بمطالب الطبيعة البشرية والعالم والناس التي لا تتمشى مع حرية الروح. وحينئذٍ تصطرع القوة الإيمانية مع الواقع المخالف لها، فتبتدئ تتكشف، ويتحدد اتجاهها وعمقها وطولها وعرضها بقدر موقفها المعاكس.
استمرار الحياة الروحية هوَّ إذن استمرار لفعل الإيمان ونشاطه وبالتالي استمرار لحرية الروح بمقتضى الكلمة حيث يظهر هذا الفعل من حين لآخر على هيئة موقف واضح صريح ضد العالم والذات، إثباتاً لحيوية الإيمان واستمرار الحياة الروحية. غير أن عمل الإيمان الداخلي لا يخضع لمنطق الناس ولا يُمكن تقديره بأي قياس بشري، لأن الذي يتحكم في عمل الإيمان دوافع داخلية مستترة لا يُمكن لأي عين أن تفحص عمقها. الله وحده هوَّ الذي يقيس عمل الإيمان ويمدحه.
لذلك فالحياة المسيحية بالرغم مما يكون فيها من مظاهر تَقوية وأعمال إيمانية، إلا أنه يستحيل الحكم فيها من قِبل الناس "لا تحكموا قبل الوقت حتى يأتي الرب الذي يُنير خفايا الظلام ويُظهر آراء القلوب. وحينئذ يكون المدح لكل واحد من الله" (1كو4: 5) فحياتنا أو وجودنا المسيحي القائم على الإيمان، هوَّ حياة، أو هوَّ وجود "مستتر" عن العالم والناس لا يُمكن كشفه، "مستتر مع المسيح" (كو3:3) لأن المسيح نفسه مستتر أيضاً عن العالم وعن أحكام الناس وقياساتهم العقلية.
لذلك فإن عمل الإيمان، بالرغم من أنه يُنشئ أحياناً علامات على وجوده بالمواقف الروحية التي نقفها أحياناً ضد أنفسنا أو العالم، يمتاز بأنه يظل غير خاضع لأحكام الناس وفي أمان من تقلبات الأوضاع أو الزمن: "أقل شيء عندي هوَّ أن يحكم فيَّ منكم أو من يوم بشر، بل لست أحكم في نفسي أيضاً" (1كو4: 3)
ونحن مطالبون بأن نطيع الكلمة ونعمل عمل الإيمان دون أن يزوغ قلبنا وراء الجزاء أو الشهادة لأنفسنا، لأن كل رجاء نرجوه في الحاضر من وراء أعمالنا هوَّ رِدَّة إلى الذات. وإرضاء الذات هوَّ سقوط من الإيمان. لأن الإيمان حدث فائق للزمان مُنكر للذات والواقع والرجاء المنظور